صدر العدد الاول فى 16 من يناير 2010
لماذا قبل البابا اقدام المسلمين ؟!
العربى السمان
لماذا قبل البابا اقدام المسلمين ؟!
مقال الكاتبة فاطمة ناعوت يستحق القراءة
والخروج منه بعدة عظات وعبر ونصائح تعلو بنا فى دنيانا مكعالجة ظلم البشر وطمع
وجشع تجار السلاح . تعالوا نقرأ :
الخميس
الماضى، يُسمى فى الأدبيات المسيحية «خميس العهد». وهو
اليوم
الذى شهدت ليلتُه أمرًا عظيمًا، حين تم القبض على السيد المسيح، عليه السلام، ثم
اقتياده ومثوله أمام هيئة القضاة لمحاكمته بتهمة التجديف فى الدين(!)، بعدما أوشى
به تلميذُه الخائن يهوذا الإسخريوطى، فحُكم عليه، ظلمًا، بالتعليق بالمسامير
الغلاظ على الصليب الخشبى صباح اليوم التالى: «الجمعة العظيمة»، لينزفَ حتى الموت؛
وهنا تتشعّبُ روايتان. وفق أدبياتنا الإسلامية؛ لم يمُت السيد المسيح، إنما رُفع
بأمر الله للسماء حيًّا نبيًّا عزيزًا، واستُبدل به الخائنُ يهوذا، ليُصلَب ويموت
جزاءَ خيانته سيده. بينما تقول الأدبياتُ المسيحية إنه نزف دمَه الطاهر حتى الموت
على الصليب، من أجل أن يفتدى البشريةَ ويحمل عنها خطاياها؛ ثم دُفن، فى القبر،
وقام من مواته بعد ثلاثة أيام ليصعد إلى السماء، عزيزًا طاهرًا، وفق الإيمان
المسيحى.
فى
ليلة الخميس تلك، قبل محاكمته عليه السلام بساعاتٍ قليلة، تناول السيد المسيح
العشاءَ الأخير مع تلاميذه الثلاثة عشرة، ثم قام بغسل أقدام تلاميذه جميعًا، ومن
بينهم يهوذا، حتى يعطيهم درسًا فلسفيًّا مقدّسًا فى التواضع وقتل الكِبر فى النفس.
حيث هو المقدّسُ الأعلى يغسل أقدام من هُم دونه قيمةً ومقامًا ومجدًا وعلمًا.
فى
مصر، فى عصور قديمة، كان حكامُ الدولة المسلمون يحتفلون بهذا اليوم العظيم مع
أشقائهم المسيحيين من أقباط مصر، فيسكّون عملاتٍ تذكاريةً من فئات مختلفة، من
الذهب الخالص، تُوزّع على رموز الدولة، تخليدًا لهذا اليوم. كذلك فى الفاتيكان،
احتفل البابا فرنسيس بذكرى ذلك اليوم، الخميس الماضى، بتطبيق نفس الطقس الفلسفى
الأعظم الذى فعله السيدُ المسيح، عليه السلام، مع تلاميذه. حيث وقع اختيارٌ عشوائى
على اثنى عشر لاجئًا من جنسيات وديانات مختلفة، ثم قام البابا فرنسيس، بابا
الفاتيكان الكاثوليكى، بغسل أقدامهم وتقبيلها بكل تواضع ومحبة، من أجل أن يُعطى
للعالم رسالةً ناصعةً فى وجوب شيوع المحبة والتبجيل بين كل أبناء البشرية على هذا
الكوكب، مهما اختلفت الألوانُ والمعتقداتُ والأعراقُ والطبقاتُ الاجتماعية. من بين
من قام البابا بغسل أقدامهم، ثلاثةٌ من المسلمين، وغيرهم من الهندوس والمسيحيين من
طوائف ومذهبيات وأعراق مختلفة.
لماذا
قبّل البابا أقدامَ بشر لا ينتمون إليه لا بالقرابة ولا بالنسب ولا بالعقيدة ولا
بالعِرق ولا بالهوية؟ لماذا، وهو الرجل ذو المكانة القدسية والسياسية الرفيعة التى
تجعل أبناءَ عقيدته يُقبّلون يديه وينحنون أمامه، يقبَلُ أن يخفضَ رأسه عن تواضع
وينحنى بهامته حتى مستوى أقدام لاجئين بسطاء، قد يراهم البعضُ مشردين أذلاء، لا
وطن لهم، بعدما هُجّروا قسرًا من ديارهم تحت تهديد القتل أو التعذيب؟ وأنا أشاهد
ذلك الفيديو رحتُ أتأمل ذلك المشهد الهائل وأحاول أن أصل إلى طرح أبعد من مجرد
محاكاة البابا للسيد المسيح والاقتداء بأفعاله القدسية المبجّلة. للحق كنتُ أرى
البابا وهو يغسل أقدام المشرّدين ويقبّلها، كأنما كان يُقبّل صنيعةَ الله ويُمجّد
ثمرةَ يديه تعالى.
الإنسانُ، كل إنسانٍ، هو صنعُ الله وثمرةُ يديه الربوبيتين.
فحين تتأملُ زهرةً مشرقةً، وحين تستنشقُ شذاها، وحين تراقبُ فراشةً جميلة تخفق
بجناحيها فوق الزهر، وحين تشخصُ فى وهج الشمس البرتقالى أو ضوء القمر الفضى أو
تلألؤ النجوم الماسى أو سريان الغيم فى السماء، فكأنما أنت تُمجّد صنع الله
الإعجازى وتقول: «سبحان ربى العظيم، ما أبدعَ صنعك!» وحين تُقبّل طفلا فكأنما تقول
بفعلك: «سبحان الله العظيم! ما أجمل ما قدّمت للأرض خليفةً لك، ليُعمّر الكون
ويُحسن إلى غيره من الناس!». ولكن، حين تقوم بتقبيل أسفل ما فى الإنسان، قدميه،
فالرسالةُ تكون أبلغَ وأعمق. كأنما تقول: «ها أنا يا ربُّ أنحنى بجبهتى،
وأنا
صنعتُك الكريمة، حتى تمسَّ هامتى أحطَّ وأسفلَ ما فى صنعتك الكريمة: قدم إنسان
آخر». لهذا تُعلّمنا الأديانُ كافّة أن الكِبر والغرور من سمات التصدّع الروحى
وفقر الإيمان فى الإنسان. المؤمن الحقُّ لا يكون إلا متواضعًا وهو عزيزٌ، مهما
اعتدّ بنفسه ومهما اعتزّ بكرامته. فالاعتدادُ بالنفس والكرامة لا يتناقض مطلقًا مع
التواضع، إنما يؤكده ويُكرسّه ويسانده. فكأنما أراد البابا الحكيم أن يقول لأولئك
البسطاء: لا تصدقوا أنك مشردون لاجئون أذلاءُ مطرودون من أوطانكم.
فأنتم غالون عند
الله، لأنكم صنيعة يديه. كأنما أراد البابا المثقف أن يقول لأولئك الحزانى: لا
يعنينى أى المعتقدات تعتقدون، ولا من أى أعراقٍ تنسلّون، إنما أنا أحبكم وأحترمكم
وأُجلّ حتى أقدامكم، لكونكم: «إنسانًا». والإنسانُ قيمةٌ عليا فى ذاته، مهما
اعتقد، ومهما انتمى، ومهما كان ظرفه السياسى أو الاجتماعى. قبل عامين، غسل بابا
الفاتيكان أقدام السجناء، ليقدّم رسالة روحية تقول إن حتى الخطاة المذنبين لهم
قدرٌ ومكانةٌ فى منظومة الإنسانية. فى كلمته هذا العام، قال البابا للبشرية: «نحن
جميعًا سواءٌ متساوون، مسلمين ومسيحيين وهندوسا، جميعنا أبناءُ الله. وأما الحروب
والاقتتالات التى تحدث فى العالم، فليس من صانع لها إلا تجار السلاح الذين يودون
أن يزدادوا ثراء على جثامين البشر، وإن فنى العالم. فدعونا ننشر السلام والمحبة
بين الناس. لأن الله هكذا يريد».
لشدّ ما نحتاجُ جميعًا أن نتأمل ذلك
المشهد المتحضّر فى مجتمعاتنا العربية، فنحبُّ بعضنا بعضًا، ونتواضعُ أمام بعضنا
البعض. فالدينُ لله، والمحبة والاحترام والإنسانية للجميع.
لكم منى تقديرى واحترامى
ولمصر الحب كله